الرئيسية / الأنشطة / رحلة بشرّي

رحلة بشرّي

رحلة بشرّي                                                  الأحد 21 أيار 2017

الانطلاق

مع نسائم الفجر النديّة المنعشة، ومع همس التسبيح، والشعور بروعة الخلق وجمال الحياة، انطلقت الرحلة من جوار الحسينية في النبطية، وتهادت بفريقٍ نخبوي من مدينة النبطية ومحيطها، والتحق بها أصدقاء آخرون، في دير الزهراني ومفرق برجا وبيروت، وبذلك اكتمل العديد المتنوع، من هيئة تكريم العطاء المميز، ومن منسقي وأعضاء اللجان المشكّلة على هامش مؤتمر “البيئة والمجتمع”.

الفطور

كانت المحطة الأولى في منطقة حالات، باللقاء الطيب مع الأب هاني طوق، الذي رحب بالجميع، وتم التعارف. وكانت استراحة في نصف ساعة، لتناول الفطور والشاي والقهوة، والتزود ببعض البسكوت والحلوى، والاستعداد للرحلة المتجهة صعوداً إلى بشرّي.

تتناوب الأماكن والمناظر، وتتنوع بجمالها وألوانها وسحر الطبيعة اللبنانية في أواخر الربيع. ويتولى الأب هاني طوق التعريف المتواصل، بالقرى والبدات التي نعبرها، شارحاً ومفسراً طبيعة الأسماء ومصادرها، وتواريخ بعض المباني، وبعض الشخصيات التاريخية. وكان يضفي على الرحلة مزيداً من الجمال والغنى، بروحه المرحة، وثقافته المتنوعة.

وادي قنّوبين

وكانت درّة التعريف على مشارف بشرّي، حين وصلنا إلى حدود وادي قنّوبين، حيث أفاض الأب في الحديث عن هذا الوادي، وقيمته الدينية في تاريخ الوجود المسيحي في لبنان، في عصور الاضطهاد؛ إذ كان هذا الوادي مستقراً للبطريركية المارونية عدة قرون، ذلك أنه يسمح بالتخفّي، نظراً إلى طبيعته الوعرة والقاسية والشديدة الانحدار، ويحتضن الكثير من الكهوف والمغاور والزوايا، التي كانت تُتّخذ ملاجىء للنسّاك والزاهدين والمتعبدين والحُبَساء والمعتكفين.

وكانت التلال المحيطة بالغابة تتجلّى في شموخها، وقد امتلأت منحنياتها بالثلج المتراكم، فبدا المشهد كأنه لوحات داكنةٌ، توشّيها خطوطٌ طوليةٌ بيضاء. وكانت الغيوم القطنية المتفرقة تضفي على المشهد رونقاً وجمالاً.

غابة الأرز

تهادت الرحلة صعوداً إلى غابة الأرز القديمة المعمّرة، من مدخلها الأعلى. وكان الطقس بارداً هناك، والنسائم الباردة تورّد الوجنات وتلفح الوجوه والعيون، وتدفع الجميع إلى تدابير حماية، لظروف غير منتظرة. فبادر كلٌ أول الأمر إلى حماية الزوجة، فخلع الجاكيت ليحمي زوجته من شدة البرد، ومنهم من حمى رأسه بسترته، ومنهم من استسلم للواقع، وتحمل لذعات البرد لأنه لم يحسِب حساباً لهذا الأمر.

كانت الجولة في الغابة في غاية الأهمية والفائدة، فهي متعةٌ سياحية بيئية صحية وثقافية. وقد تولى المهندس الزراعي السيد شربل طوق مهمة الشرح المفصل عن تاريخ الغابة، وأعمار أشجار الأرز، وطريقة تكثيرها، ومراحل حياتها. وقام المهندس بشرح وافٍ عن أرزة لامارتين، التي قام أحد الفنانين المبدعين بنحت وجوهٍ ورسومٍ على جذوعها، في عمل تشكيلي رائع ومعبّر. وقام بتشكيل فروعها وأغصانها، بحيث ترمز إلى بعض أسرار الخلق والحياة والموت… وكان للجميع صور تذكارية أمام هذه الأرزة، وعند غيرها من أشجار الغابة الضخمة والباسقة.

وكانت المعلومة الجديدة والطريفة هي مشروع رعاية أرزة؛ وهي أن بإمكان شخصٍ أو أكثر، رعاية أرزة جديدة أو أكثر، تُغرس باسمه أو بأسمائهم، ويحصلون على بطاقة إثبات. كل ذلك لقاء مبالغ محددة. ويمكن لمن يشارك في هذا المشروع أن يأتي بأولاده ليدلّهم على الأرزة المعنية، لكي يستمر عنصر الانتماء مع توالي الأجيال.

ثم استؤنفت الجولة في الأقسام الباقية من الغابة، حتى الوصول إلى مدخلها الأسفل، حيث أُخذت الصور التذكارية، وحيث شرب البعض القهوة، واشترى البعض الآخر نصوباً صغيرة من أشجار الأرز.

فوق الغيوم

لم يرغب الأب طوق في مغادرة محيط الغابة دون أن يأخذنا في رحلة إلى أعالي قمة القرنة السوداء، فانطلقت الحافلة صعوداً. وتحت مدى البصر كانت تلوح غابة الأرز الأم، وتحفّ بها مولوداتها المتناثرة على المنحنيات والهضبات المحيطة.

ولدى الإمعان في الصعود كانت الحافلة تقترب من الثلج المتراكم، وتكاد تلامسه عند المنعطفات الحادة. ويتسلل الخوف إلى قلوب البعض الذين هالهم المشهد، وأخافهم الارتفاع، وأقلقهم عدم وجود فسحة أرضية لاستدارة الحافلة…

وبين صيحات الدهشة والقلق والتسبيح وصلت الحافلة إلى القمة، حيث يمكن رؤية مشهدين، غربيٍ يمتد من بشري نزولاً إلى أواسط وادي قنوبين، وشرقيٍ هو سهل البقاع. لكنّ الضباب والغيوم حجبا كل ذلك.

نزل معظم المشاركين من الحافلة، والرياح تكاد تزحزح المرء عن مساره. وفي نشاط عفوي من المرح والدعابة والانشراح، راحوا يأخذون الصور التذكارية، جماعاتٍ وفرادى، عند أكوام الثلج التي بلغت في بعض الأماكن ثلاثة أمتار. ويرى المشاهد، من وراء غلالة من ضباب، أشباحاً بشرية تتشبث بالأرض، في وجه رياح عاتيةٍ تلفح الوجوه، وتعبث بالشعر وبالثياب، وبكل كائنٍ متحرك. ومن شاء أن يحفظ توازنه راح يشد ذراعيه على ثيابه، ويمكّن من حركته، مخافة أن تلقي به الرياح على أديم الأرض أو على بساط الثلوج… ثم عاد الجميع إلى الحافلة التي تهادت نزولاّ باتجاه مدينة بشري.

متحف جبران

وكانت المحطة التالية في متحف جبران، حيث جال الجميع على قاعات المتحف، وشاهدوا مخطوطات جبران بقلمه، واطّلعوا لوحاته المنوعة، وغير ذلك من مقتنياته الشخصية. لكن المشهد المؤثر كان عند مدفنه، في تجويف صخري، إلى جانب سريره وأوراقه.

وقد اغتنم البعضُ وقتاً من زيارة متحف جبران، حيث اختاروا ركناً من باحته الخلفية، وأدَّوا صلاة الظهرين، في مشهد طبيعي رائع، وفضاء نقي، وشمس لطيفة يتسلل دفؤها إلى الأوصال.

الغداء

وكان الجوع قد بلغ مداه، وكان لا بدّ من التوجّه إلى المطعم الهادىء المتواضع، المستريح بين أشجار مثمرة متنوعة، والمشرف على مناظر خلابة، يخرق سكونَه خرير قنواتٍ غزيرة من المياه النقية الباردة، المتدفقة من أعالي جبال الثلج.

كانت سُفرةً عامرةً بما لذّ وطاب من أنواع المقبلات والمتبلات، والمأكولات المنوّعة والسمك الطازج، والفاكهة الشهيّة والحلوى، وختامها قهوة لذيذة.

وبعد الغداء كانت المناسك الرسمية للزيارة، تخللتها كلمة للدكتور مصطفى بدر الدين، وكلمة للأب هاني طوق، ثم قام الدكتور مصطفى بتسليم الأب طوق الهدايا، من بلدية النبطية إلى بلدية بشري، ومن هيئة تكريم العطاء المميز إلى الأب نفسه.

 

 

حديقة مارجرجس

ولم يقبل الأب مغادرةَ الوفد إلا بعد المرور على حديقة مارجرجس، المتربعة على ناصية وادي قنوبين والمشرفة عليه. وهي تجمع بين القديم والحديث؛ ففيها كنيسة قديمة، يقوم سقفها على جذوع خشبية عتيقة، وتفوح من جنباتها روائح التاريخ. وفيها تشكيلات من الزهور المنوعة، ذات الألوان الجميلة والمتناغمة والمنسقة، بين بساطات من العشب الأخضر النضِر.

وقد حكى لنا كيف أن النساك الذين كانوا ينتشرون في مغاور الوادي وكهوفه كانوا يوقدون أعواد البخور قبيل الغروب، وكانت الروائح الجميلة تتصاعد في ذلك الفضاء،  في ما يشبه غمامةً من العطر عند موقع الحديقة.

رحلة العودة

كانت العودة أكثر سكوناً وهدوءاً. وكأن الجميع قد اختزنوا جرعةً كافية من الاستمتاع بجمال الطبيعة، ومن غنى المشاهدات، وكرم الضيافة، ومن الإطلالة على منطقة من الوطن لها رمزيتان: رمزية الأرز الذي يزيّن علم البلاد، ورمزية جبران بأدبه وفلسفته ورؤيته الخاصة للحياة.

محطةٌ واحدة على الطريق لتناول البوظة في مدينة صيدا، ومغادرة الزملاء الأعزاء في منطقتي برجا ودير الزهراني. وكان الوصول إلى نقطة البداية في النبطية، بعد الغروب بقليل، حيث انطلق كلٌ إلى بيته، حاملاً من الرحلة وجمالها، ومن الزملاء وطيب العشرة، ذكرى طيبةً، وشعوراً بالسكينة لا تبدده الأيام.

                                                                                      محسن جواد