نظمت هيئة تكريم العطاء المميز نهار الجمعة في 27 آب 2021 الساعة السادسة عصراً ندوة بعنوان : “إنعكاسات جائحة كورونا والأوضاع الاقتصادية والامعيشية على العملية التربوية في لبنان” في حديقة الرسول الأكرم في النبطية . جاء فيها:
- كلمة رئيس هيئة تكريم العطاء المميّز د. كاظم نور الدين
أسعد الله مساءكم
الزميلات و الزملاء الحضور
إنني أرى في وجوهكم علامات من الحزن وأخرى من الفرح المخضّب بآهات القلوب…
الحزن على ما أصاب وطننا، أسطورة الجمال و المحبة و الروعة والحرية و العطاء … وطن الثقافة وحرية الكلمة … الوطن الذي غنّاه الفنّان وديع الصافي “لبنان يا قطعة سما” … ودعيناه مع آخرين من عرب وأجانب، من كل دول العالم “سويسرا الشرق”…هذا الوطن الذي كان مقصد السوّاح من كل بقاع الأرض، مُصَدّر الحرف، ومنبت الكلمة … مصدر المعرفة والثقافة المنشودة للتطور والتحضر ، وطن التعايش…
ما أصابه مؤلم وقاتل، إذ ساهم سياسيوه في نهب ثروته، الأمر الذي أدى الى ضرب اقتصاده ، كما ساهموا في دعم الفساد، وتغطية الفاسدين والمفسدين من شركائهم و أزلامهم… ساهموا في نحرنا و حرقنا وقتلنا ، ليعيشوا في أبراجهم العاجية التي بنوها على جثث الأحرار المؤمنين بوطن يتخيلونه أهم أوطان العالم ، إنهم لا يتطلعون الى خارج هذه الأبراج كأن شيئاً لايحصل، والوطن بألف خير ما دام هناك ما يسرقونه وأعني أرواحنا. جلّ ما يفكرون به : البقاء على كراسيهم ، واستكمال تقاسم الحصص… ومن بعدهم الطوفان.
نحن اليوم نقف في طوابير الذّل، طوابير البنزين والمازوت والغاز والكهرباء وكل مصادر الطاقة…وفي هذه الأيام طوابير إذلال المسافرين في مطار رفيق الحريري الدولي، المعاملات السيئة و القهر، بحيث بات المسافر يشمئّز من العودة الى الوطن، إذا ما قارن هذه المعاملة مع كل مطارات العالم و حتى المتخلفة منها…
طوابير الدواء و الطبابة و الإستشفاء وفي جميع المؤسسات القيّمة على الصحة، والتي باتت لا تستطيع تلبية مريض أو متألّم… نقف في مراكز البيع على أنواعها وخاصة “السوبرماركات” وكل متاجر المواد الغذائية، دون أن نتمكن من الشراء… كثيرون يتعرفون على الأسعار، ويغادرون دون أخذ حاجياتهم لعدم تمكنهم من ذلك ، بعدما أصاب عملتنا الوطنية من تدهور قاتل في قيمتها الشرائية، وتدني سعر صرفها مقابل الدولار الاميركي. وباتت مدّخراتنا الشهرية لا تكفي لإسبوع واحد… وبعض من حالفهم الحظ واستطاعوا جمع بعض الأموال للإستعانة بها في الظروف القاهرة ، استولى عليها أصحاب المصارف والبنوك ومَنْ وراءهم من رجالات السلطات المالية والسياسية، وقوننت لهم الدولة ذلك ، فتقاسموا وإياها حتى العرق الذي تصبب من جباه العاملين الكادحين الذين سعوا لتأمين حياة كريمة لأسرهم ومستوى تعليم جيد لابنائهم…
ماذا أقول في هذه العجالة من الوقت ؟ كل ما يمكن قوله، أوجزه بأن رئيس البلاد الذي وعدنا بجهنّم ، وكل رجال السلطة الحالية والذين توالوا عليها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يسعون الى نحر الوطن وإذلال القسم الأكبر من الشعب الذين يسعون الى الإستمرار في تحقيق حياة كريمة…
أما لمحات السعادة الخجولة فهي تشير الى أنكم تدركون أنه مازال هناك من يعمل من أجل هذا الوطن، ويحاول أن يصوّر الواقع الأليم، ويضيء على المشاكل التي يعاني منها… يصوّر الواقع ويطرح الحلول… لعلّ أعجوبة ما تحصل وتلتقي القلوب الطيبة البعيدة عن الأنظار والتي تتمتع بالخبرة و الجرأة، وتسعى جاهدة، بعيداً عن الأنانية والطائفية والمذهبية والتبعية والطبقية… لإنقاذ هذا الوطن الجريح.
لن نفقد الأمل لأن الله معنا، وحبنا لهذا البلد لايضاهيه حب. ولهذا نحن في هيئة تكريم العطاء المميّز أخذنا على عاتقنا الإلتزام بمبدأنا العام :”تستمر الحياة وتستمر نشاطاتنا ” ، فكان هذا النشاط من منطلق أن التربية والتعليم هي الصورة المضيئة لكل مجتمع، إنها أساس بقائه وتطوره وازدهاره بإعتبار أن هلاك أي بلد يبدأ بإنهيار نظام التعليم فيه. وهكذا سعينا جاهدين الى تنفيذ هذه الندوة في ظل ظروف صعبة صاحبت إنهيار الدولة وتتمثل بالإنتشار الواسع لفيروس كورونا منذ عامين، وهي الآن تعود الى أوجها في ظل مخاوف ومخاطر كبيرة بسبب عدم وجود أدوية ومستشفيات وأجهزة طبية وتمريضية و كافة مستلزمات النظام الصحي…
كان نظام التعليم عن بعد، ومن ثم التعليم المدمج، وكذلك التعليم الحضوري، واليوم نحن في حيرة بل كل الناس في حيرة من أمرهم… ماذا ينتظرنا؟ وما هي العوامل المؤثرة؟ وكذلك ما هي الحلول الممكنة ؟ وأخيراً ما هي التأثيرات النفسية لهذا الواقع المرير على الأجيال؟ هذا ما ننتظر الإجابة عليه من السادة المحاضرين!
السادة الحضور
أطلت عليكم ولكني أردت أن أنقل لكم بعض ما في داخلي من حسرات وآلام ، مع أنني متأكد أنه هذا حال كل لبناني يرغب في حياة كريمة.
عذراً وأعود لأقول لكم حللتم أهلاً، وأرحب بكم جميعاً وبالمحاضرين وإدارة الندوة تاركاً لها التعريف بكل منهم و بموضوعه.
تجدر الاشارة الى أن هذه الندوة ستبث على موقعنا الخاص وستتولى أمانة لجنة الاعلام (الاستاذ علي عميص) نشرها في وسائل الاعلام وعلى المواقع الألكترونية المتعددة في كل المناطق اللبنانية عن طريق صداقاتنا الخاصة في الشمال والبقاع وجبل لبنان وصور… كما نأمل نشرها على “الغروبات” الخاصة بكم. وذلك لتعميم الفائدة و الإضاءة على ما سيزودنا به أصحاب الإختصاص.
عشتم عاشت هيئة تكريم العطاء المميز عاش لبنان الذي نرسم صورته المثالية في مخيلتنا و السلام عليكم.
- ادارة الندوة: الأستاذ أسد زين غندور
الصديقات والأصدقاء يسعدني، بإسم هيئة تكريم العطاء المميز في محافظة النبطية، ادارة وأعضاء، أن أرحب بكم فردا” فردا”، في هذا اللقاء التربوي ، والاجتماعي . وأن أرحب بالضيوف الأصدقاء الذين تكبدوا المعاناة للمشاركة، وأقدم التحية والشكر لكل من ساهم بإنجاح ندوتنا، تحضيراً ومتابعة ومحاضرين. كما أشكر بلدية النبطية التي أتاحت لنا إقامة الندوة في هذه الحديقة المميّزة.
لقد دأبت هيئة التكريم، منذ تأسيسها ، على تكريم المميّزين من وطني. فكرمت الأدب والفن والتربية والطب والإبداع وسائر النشاطات الانسانية.كرّمت أفرادا” اعطوا بصمت وبروح كفاحية عالية في مختلف الميادين. وكرّمت هيئات ومؤسسات وجمعيات برعت وثابرت على العطاء المميز، وكان لأياديهم البيضاء، والتزامهم قضايا وهموم الناس والوطن ، الأثر الطيب في النفوس ، سطرتها صفحات الكتب والمجلات .
وخلال السنوات الاخيرة ، وأمام واقع سياسي واجتماعي واقتصادي وتربوي وثقافي مزري، بات يهدد كل الشعب اللبناني في وحدته وتضامنه واندماجه، وفي إمكانية تأمين الحد الأدنى من قوته اليومي ، كما بات يهدد الكيان اللبناني برمته، وإمكانية بقائه على الخريطة ، كل ذلك نتيجة ما ألت اليه الأوضاع من تراجعات وانهيارات عامة ، وتفكك ومخاطر الفوضى القاسية والمدمرة.
في هذه الظروف الصعبة والمرة، ثابرت هيئة التكريم على متابعة نشاطاتها، فعقدت اللقاءات والندوات والمحاضرات، ونظمت وأحيت المؤتمرات العامة، والسهرات الأدبية والفنية، في أكثر من موضوع ومناسبة.
واليوم، وبالرغم من صعوبة ومخاطر الأوضاع التي نعيشها ،ها نحن نبقى على العهد والوعد، بان نستمر في تقديم نشاطاتنا المتنوعة، علنا نساهم في القاء الضوء على جذر المخاطر التي تحدق بنا وتهددنا، وطرح ما يساهم على تخطيها وتجاوزها، وان نضع لبنة في جدار إنقاذ بلدنا وإعادة تاسيسه وبنائه من جديد ، على مرتكزات وطنية صلبة.
إن ندوتننا اليوم ، تتناول موضوعاً يعتبر من أهم المواضيع التي يجب الإهتمام بها، لما له من تأثير مباشر وغير مباشر على عملية بناء الانسان وتعزيز مفهوم المواطنة، وبناء الوطن الذي نحلم به، الوطن المعافى الحر السيد المستقل والمتقدم. إنه موضوع التربية في لبنان بين الواقع المعاش والمرتجى من حلول إنقاذية.
لقد أكد معظم عباقرة العالم على مقولة صحيحة وسليمة تقول: إذا أردت أن تبني وطناً سيداً ومتماسكاً ومعافى ومتقدم ، عليك أن تهتم بمسالة التربية والتعليم أولا وثانيا وثالثا… وإذا أردت أن تهدم أمة بكاملها، مهما امتلكت من مقومات البقاء والحياة ، عليك أن تهدم التربية والتعليم في هذه الأمة.
انطلاقاً من هذه المقولة الواضحة والبينة ، أردنا في هيئة التكريم، أن نطل اليوم على واقع التربية والتعليم في لبنان وإنعكاسات الأوضاع الاقتصادية والمعيشية عليها، والمخاطر التي تهدد عملية التربية ، والعوائق التي تحول دون استمرارية التعليم وصعوده وتطوره.
منذ أن قامت الدولة في لبنان ، استندت على مرتكزات ضيقة الأفق وهشاشته ،سمحت بإنحلال الدولة ، وحالت دون وحدتها وتطورها وتقدمها. وشكلت هذه المرتكزات السبب الرئيس في اندلاع الفتن والحروب الأهلية كل بضعة سنوات ، كما سمحت للخارج أن يمد أوصاله في الداخل اللبناني لتطال مختلف الميادين. وبتنا على مدى مائة عام وعام، نحلم بقيام الدولة الوطنية لا دولة الطوائف والمزارع، الدولة المستقلة في قراراتها الوطنية، المتحررة من التبعية للخارج بكل تلاوينه.
وخلال هذه المسيرة المليىئة بالأشواك والعقبات، ورغم الحديث المسهب عن مشاريع طرحت من هنا ، ومؤتمرات عقدت هناك، وأموال تم استجداءها ، وديون أغرقت البلاد في وحل الهزيمة، ونفقات عالية صرفت من أجل تعزيز التربية و التعليم في لبنان… إلا أننا، ومع الأسف، وقياساً على غياب السياسات الوطنية الجامعة، افتقرنا الى سياسات تربوية وطنية ، متصاعدة، متطورة، حديثة وتماشي العصر. وإلا لو تم ذلك لما وصلت البلاد الى ما وصلت الية اليوم من خراب وتدمير وانهيار وغياب القيم الديمقراطية والأخلاقية والتشرذم والبحث عن الخلاص الفردي.
في هذا التفلت من كل تخطيط ومن أي رادع أخلاقي، وما أن تدهورت الأوضاع السياسية والاقتصاية والمالية، وتعطلت معظم المؤسسات، وانكشف المستور، أضحت الدولة بحالة سريرية وتكاد تلفظ أنفاسها، مما كان له الأثر السلبي والسيء على التربية والتعليم في مختلف جوانبه ومراحله. ولم تعد تفيد الأبنية المدرسية الضخمة التي شُيّدت ،لا لتأمين الحاجة بقدر ما هو تأمين مصالح سياسية وإنتخابية ومقاولاتية ضيقة.
ثم جاءت جائحة الوباء الخطير ” الكورونا” الذي غزى العالم بأسره، وكان للبنان كغيره حصة وافرة من مخاطره المميتة، مما هدد كل الناس بدون استثناء، وخاصة اولئك الذين تفرض عليهم اوضاعهم ان يمارسوا عملهم ، او ان يتواجدوا، في الأماكن المقتضة بشرياً. فأقفلت المدارس وتوقف التعليم بشكل عام. وبعد أن ابتدعت الدول المتطورة آليات التعليم عن بعد، حاولت المؤسسات التربوية في لبنان، وهي الأعلم بواقعها المتأخر، حاولت استخدام هذه الآليات وفرضته على المدارس بشروط وأوضاع جد سيئة، حيث لا كهرباء ولا تجهيزات ولا دورات تأهيل للمعلمين وللطلاب وللأهل ، مما انعكس أيضا سلباً على واقع التربية والتعليم، وتحول معظم تلامذتنا الى جيل من الأميين، وبتنا نتخبط ونصدر القرارات والتعليمات التي تملى على مجتمعاتنا بدون دراسة واعية وأفق منهجية محددة، ولا ترتكز على أسس علمية ومادية وبشرية مؤهلة وقادرة على سد الثغرات.
في مواجهة هذه المخاطر وانعكاساتها السلبية، نطرح جملة أسىئلة :
_ كيف يمكن ممارسة التعليم في ظل الأوضاع البائسة القائمة؟
_ ما هي السبل المتوجب استخدامها للحفاظ على المدرسة، وكيف نحد من الإنفعالات وتردداتها النفسية على الادارات والمعلمين والتلامذة والأهل في نفس الوقت.؟
_ كيف يمكننا أن نساهم بشكل جدي في عملية إنقاذ التربية مما يهددها من مخاطر قاسية، وما هي الوسائل العلمية التي تنقذ تلامذتنا وتعيد اليهم الروح بإمتلاك المعرفة أولاً،وبناء شخصيتهم المستقيمة والوطنية ثانياً، وما هي المعوقات الاقتصادية والاجتماعية التي تقف حجر عثرة أمام
إمكانية تنفيذ البرامج وآليات التعليم المطروحة ثالثاً ؟
_وأخيراً كيف يمكننا مواجهة الحد من التأثيرات السلبية على التربية من خلال الضياع والتفلت والإرتهان الذي وقعنا به.؟
مجموعة أسئلة ، سيحاول ضيوفنا الكرام الإجابة عليها
عبر مقاربتهم لواقع التربية القائم من جهة، وطرح بعض الرؤى كحلول ممكنة من جهة أخرى.
المداخلة الأولى: للصديق الدكتور والباحث والناشط الاقتصادي حسن مقلد.
إنه اشهر من ان يعرّف به، لتعدد نشاطاته وكتاباته ودراساته الإنقاذية. خاصة بعد أن تحوّل في الأشهر الأخيرة الى سندباد لبنان الذي يبحث عن حلول للأزمات المتمادية وللإنهيارات الناتجة، وقام بعدة جولات مكوكية على عدد من دول العالم، محاوراً المسؤولين فيها، كاشفاً أوجه ما يتخبط فيه لبنان من أزمات،طالباً تقديم مساهمات من هذه الدول في إعادة بناء الدولة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي ، مركزاً على دولتي الصين وروسيا.
حسن مقلد، عضو هيئة المتابعة في الجبهة الوطنية لإنقاذ لبنان وبناء الدولة ، أهلاً بك بين أصدقائك ، تحدثنا عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في لبنان وانعكاساتها على التربية..
- مداخلة د. حسن مقلد
أسعد الله مساء الجميع، وكامل الشكر والتقدير لهيئة تكريم العطاء المميز التي أعدت ونظّمت هذه الندوة، وأتاحت لي فرصة المشاركة ، واللقاء مع هذا الكم من الصديقات والأصدقاء.
كما أعتذر عن تأخري في الوصول على الموعد المحدد بسبب الإزدحامات المتراكمة والمتكررة وبالقرب من محطات البنزين، مما ساهم بإقفال الطرقات بعضاً من الوقت، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى غياب السلطات المعنية بتسيير المرافق العامة، بل سوء التدابير التي تنتهجها هذه السلطات للحؤول دون هذا الوضع المخزي والمزري في آن، الذي يساهم في إذلال الناس وإتاحة الفرص أمام الشبيحة والزعران للتفلت والتحكم والسيطرة على المحطات.
ايها الاصدقاء.
في هذه المناسبة، سأتحدث عن مسألتين، الأولى الوضع الاقتصادي والمعاناة وبعض الحلول الممكنة، وهذا من إختصاصي، والثانية التربية وإنعكاسات الأولى عليها، وإن كنت دخيلا على هذا الموضوع.
سأبدأ الكلام عن موضوع الساعة، عن المحروقات وسبل تأمينها وطرائق توزيعها.
أمام ما نشهده من طوابير ذل على المحطات وما نسمعه بشكل يومي عن مشاكل حصلت هنا وأخرى هناك،نقول،أنه كان بإمكان السلطات المعنية تنظيم تأمين حاجة المواطن بعدة خيارات ،إن لجهة التوزيع من الشركات على المحطات، او لجهة وصول المواد بإنتظام وبأوقات غير متباعدة ، او من خلال تحديد الأسعار بما يؤمن التوازن بين مكونات الشعب اللبناني المختلفة والمتباينة، أو لجهة إتخاذ التدابير لتنظيم التوزيع داخل المحطات، ومنع الفوضى والشغب والإحتكار، وإستغلال الفرص والسوق السوداء وغير ذلك من ممارسات بشعة…
السؤال الذي يُطرح : لماذا لم تفتح المحطات أبوابها وتمد الخراطيم للتعبئة من الساعة السادسة صباحاً لغاية الساعة الثانية عشر ليلاً؟ ولماذا لا يتم استخدام كل طاقة المحطة بعيناتها الأربع او أكثر والإكتفاء بتشغيل عينة واحدة فقط ، ولماذا لم يطبّق إجراء المفرد والمزدوج لأرقام السيارات الذي استخدم في مناسبات سابقة .
إن هذا الذي نشاهده لا يشير الى عدم القدرة على التنظيم، ولاعن سوء تصرف فحسب، بل يدل على أن السياسات المتبعة مقصودة وكأن المطلوب من القيمين عليها إذلال الناس وقهرهم وكفرهم بكل شيء.
لقد كنت اليوم مع آخرين على احدى المحطات التلفزيونية، قلت وكرر الآن ، أنه قبل الحديث عن السياسات الاقتصادية يجب الحديت عن التدابير المفترض اتخاذها حفاظاً على مصالح الناس ، ولكنني أرى أن كل ما يحصل يهدف الى إذلال الناس والدفع بهم الى الفوضى ، وتكبير حجم الأزمة كي يقال بعدم إمكانية إيجاد مخارج او حلول .
منذ عدة ايام، أُتخذ قراراً بعقد إعتماد بقيمة ٢٥٠ مليون دولار لتغطية زيادة كلفة تأمين المحروقات حتى نهاية ايلول بسعر صرف ١٢٠٠٠ليرة للدولار الواحد….
ما هذا الإجراء السخيف والذي يمكن وضع كذا علامة استفهام حوله.
بالأساس، عندما نريد أن ندعم المواطنين ، يفترض أن يتناول الدعم فقط الطبقات الفقيرة غير القادرة، لتمكينها من الوقوف على رجليها اولاً، ولمرحلة محددة تسمح بإ يجاد حلول بديلة ثانيا.
ما الذي حصل عن طريق الدعم الذي نفذته السياسيات المتبعة ؟
خلال ثلاثين سنة، إستفاد من الدعم التجار الكبار، والكارتيلات والشركات الكبيرة، والسياسيين، والمصارف، وضاعت الكتلة الأكبر من الشعب بين جشع هؤلاء وممارساتهم والإحتكارات المتبعة للمواد والسلع المدعومة.
منذ استفحال أزمة البنزين،على سبيل المثال، لغاية الأيام الأخيرة، كان بالإمكان عدم شمول الدعم كل من: اليونيفل…السفارات والسيارات المسجلة باسم الشركات الضخمة و المصارف. وحيث ان سيارات هؤلاء مجتمعين تعادل نصف كمية السيارات المتنقلة على الأراضي اللبنانية ، فإننا بذلك نخفض كلفة الدعم الىى أكثر من النصف ، لأن سيارات هؤلاء تتنقل أضعاف باقي السيارات المسجلة بإسم أشخاص عاديين. وأظن أن حجم الدعم قد ينزل الى العشرين بالمائة عما هو قائم. ويمكن إتخاذ هذا الإجراء لسنة كاملة تسمح بإيجاد فرص بديلة. ويمكن أن نطبق نفس الإجراء على مادة المازوت .
تحدثوا عن بطاقة تموينية. أرى أنه بدل هذه البطاقة، المشتبه قي تنفيذها، يمكن تحديد قيمة المبلغ الذي سيقدم لرب العائلة:٢٠٠ألف ليرة أو ٣٠٠ألف، وأن يعطى هذا المبلغ شهرياً لموظف القطاع العام والمتقاعد والمتعاقد، كزيادة على رواتبهم، و أن تدفع الشركات الخاصة والمصارف والسفارات وكل القطاعات غير التابعة للقطاع العام نفس النسبة لموظفيها ، ثم يلغي الدعم كلياً عن المحروقات. ولكن يبدو أن السياسة المتبعة هي سياسة إنتخابية ولا تبحث عن حلول عامة. وأن القيمين على هذه السياسات لا يرغبون التقليل من الأرباح الفاحشة التي يحققونها من جراء سياساتهم السيئة.
إن طن البنزين يحقق ربحاً قيمته ٣٦٠دولاراً مقارنة مع الأسعار السائدة في الخارج. وإذا قارنا ذلك بمن يغرف الذهب غرفاً لتفوق عليه بتحقيق الربح الخيالي.
القصة ، ليست أن أحداً يعرف وآخر لا يعرف ..هم أشطر من كل الاقتصاديين الذين يطرحون حلولاً جدية ، ولديهم الكثير من التدابير التي يمكن إتخاذها، ولكنهم يتقصدون عدم تطبيق أي منها ، لأن مصالحهم الضيقة من جهة، والسياسات المفروضة عليهم من جهة أخرى ، تحول دون ذلك. ولهذا يصرون على إبتداع أساليب للسرقة والنهب وتحقيق الأرباح الخيالية .
سؤال: كيف أن سلة الدعم التي طالت ٣٠٠سلعة بكلفة تقدر ب ٧٢٠مليون دولار ؟ لم تحقق الغرض المطلوب منها؟ وهو تدبير لم يعرفه أي من دول العالم . السؤال الثاني : من هي الجهة التي استفادت من هذا الإجراء؟ وهل كان له الأثر الإيجابي على حياة الناس؟
لو خفضنا الدعم ليطال ٢٠أو ٢٥ سلعة تؤمن حاجات الناس اليومية والأساسية، كانت انخفضت كلفة الدعم الى ١٠٠مليون دولار فقط. ولكن الذي حصل، لم يشعر المواطن بالدعم، وطارت الأموال المعتمدة له، ومن كان يريد تهريب أمواله للخارح ، وسدت الطرق بوجهه ، استطاع من خلال سياسة الدعم المتبعة تنفيذ عملية التهريب.
نحن اليوم في مرحلة السقوط، والحديث عن عدم وجود طرق لوقف الإنهيار، غير دقيق.
لقد مررنا خلال ٣٠سنة بعدة محطات ، كانت الظروف خلالها أقسى مما نشهده اليوم.
في عام ١٩٩٨مررنا بوقت لم يكن لدينا في المصارف والمصرف المركزي دولاراً واحداً، وكنا بأقل من مليار دولار عجز.
بعد إغتيال الحريري مباشرة، وخلال عشرة أيام، كان العجز ملياري دولار، وكان نفس الشيء بعد حرب تموز ٢٠٠٦ .
مررنا بأ وضاع سيئة جداً ولم نصل الى الإفلاس لأن الخارح كان يغطينا بشرشف يحجب عيوبنا وهفواتنا وسياساتنا المتخلفة والمشبوهة ، يإنتظار أن يأتي اليوم الذي يكشف فيه عن عوراتنا ، وعندها يصبح من الصعب إيجاد الحلول.
يوم أعلنا أننا أفلسنا، كان لدينا ٣٢مليار دولار. واليوم يقولون لدينا ١٥مليار دولار. فكيف لبلد، لديه هذا الرقم من الأموال النقدية ،أن يعيش شعبه الحالة السيئة التي نعيشها…؟
هذا يعني أن قراراً سياسياً قد اُتخذ لقهر الناس وعذابها، وغير مستبعدٍ أن يكون قراراً خارجياً ، أُمليَ على المنظومة المتسلطة التابعة كلياً للخارح.
إن هذا القرار لا يعفي تلك المنظومة من مسؤوليتها أبداً، بل هي من يتحمل المسؤولية بالكامل. فإذا أراد الخارح تركيعنا وإذلالنا، لماذا فتحنا له الباب ليدخل ويمارس سياسة التركيع تلك.؟ . ولماذا لم نقفل الباب بوجهه ونمنعه من تحقيق غايته؟
إن الإدارة التي تدير الأزمة هي أسوأ ادارة عرفها تاريخ لبنان. هل هذا خيار؟ أم مرتبط بخارج له سياساته الإقليمية المكشوفة .؟. ولو سُخّرت كل إمكانيات العالم لنا ، فإن هذه الإدارة السيئة أعجز من أن تواجه وتضغط وتستفيد من هذه الإمكانيات المتاحة.
هناك نظرية تقول : دعوا النموذج السائد ان يتكسر ولنقدم نموذجاً أفضل…؟
في عام ١٩٧٥قلنا أننا نريد تكسير النموذج وتقديم البديل، فتكسرنا جميعاً ولم يتكسر النموذح بل بقي سائداً. علماً أن الفرق كبير بين عام ١٩٧٥ واليوم .
لذا، إذا لم يكن البديل جاهزاً وحاضراً، او يحضّر له بشكل جدّي وموضوعي، فلن نتمكن من تحقيق أي خطوة الى الأمام. وليس بالضرورة أن يكون تهديم النموذح المتّبع يؤدي الى الخير أبداً..لأنه أثناء العمل لتهديم النموذج، كان يوجد كماً من اللصوص الذين لم يستفيدوا منه ، عملوا جهدهم كي يستفيدوا أثناء البحث عن البدائل. ودفعت الناس أثمان باهظة جداً تفوق بكثير أثمان ما دفعته في مراحل سابقة.
السؤال : هل من إمكانية للخروج من الأزمة؟
نعم يوجد إمكانية ، بل إمكانيات متعددة. لبنان لديه من الإمكانيات والقدرات والموارد الكثيرة، ولا تزال، بالرغم من الخسائر التي لحقت بنا ، الفرصة مؤاتية كي نستفيد من هذه الإمكانيات والقدرات والموارد ، وبكلفة أقل ، وبقرار سياسي اقتصادي مستقل ، وقيادات وطنية فعلاً. الا أنه نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية متعددة، عجزت الإدارة القائمة، بل نقول رفضت أن تلعب هذا الدور الوطني، وغرقنا في الأزمة التي لا تزال مفاعيلها السلبية سائدة.
يتحدثون عن اللياقات في الوصف والتحليل. البلد يتم تدميره والآخرون يتحدثون عن اللياقات..من يريد أن يكون لائقاً في محاكاة ما يجري والمسؤولين عنه ، فليقدم اللياقة من حسابه الخاص وليس من حساب الناس. وليس على حساب تدمير البلد.
فيوم كانت تتشكل الحكومات ، كان يمكن اختيار الوزراء الأفضل والأكثر كفاءة وإلتزاماَ وحرصاً واستقلالية، لا أن نعيّن وزراء للياقات وحسابات ضيقة، وعندما يفشلوا ، أو يُفضح أمرهم نتباكى ونقول لم نتمكن…او ما تركونا نعمل…؟
لدينا خيارات مفتوحة للإنقاذ ، ومفتاحها يبدأ بقبول طروحات اقتصادية جدية وعلمية ووطنية، من خلال الترشيد والرؤية السليمة، وليس عبر تحقيق الربح السريع . فليس ما يحقق ربحاً أسرع يكون مفيداً أكثر .هذه مقولة التجار وليس مقولة المسؤول الحقيقي.
يراهن البعض ، اليوم ، على حصول تسويات معينة في المنطقة، واستغلال الفرص لإدخال أموال معينة الى لبنان، عبر بيع عفش البيت ، ولا يحسبون أنهم بعد فترة سيكتشفون غياب التسويات والعجز عن التعامل مع الدين الدولي القادم ، ويبدأ البكاء والعويل ، ويضطرون لبيع البيت والأثاث والعفش معاً .
الورقة الفرنسية تريد أن تأخذ الأنترنيت والكهرباء والمرفأ بمبلغ سبعة مليارات دولار، بينما يعادل ثمنها بابخس الأسعار ٣٠ ملياراً. وشركاء الفرنسيبن في الداخل يسوّقون هذا الطرح.
إنهم يكررون خيارات الماضي، ويقولون لنذهب الى صندوق النقد الدولي، وهم يعرفون أن صندوق النقد قد غطى كل هذه الموبقات خلال ٣٠سنة، ليس في لبنان فحسب ، بل في العديد من الدول المهزومة. كيف نغيّر الخيارات ونحن لا نزال نراهن على صندوق النقد الذي لا يملك الحل ولن يعطيه لو كان مالكاً له.
صندوق النقد ليس مسلّمة علينا الرضوخ لها ، يوجد خيارات بديلة أقل كلفة وأكثر مردوداً.
بإدارة جيدة ، وطروحات جديّة ، نستطيع إبتكار خيارات إنقاذية. فنحن لا نعيش في جزيرة مغلقة ، حولنا دول ساعدت في السابق وعلى استعداد لتقديم المساعدة…لدينا سوريا والعراق مثلاً…وفي الظروف الطبيعية نأخذ هذا الواقع بعين الإعتبار، فكيف في ظروف السقوط والإنهيار.فإذا لم نتطلع لكل الظروف والعوامل الداخلية والخارجية القريبة، نكون مجرمين بحق أنفسنا وبحق شعبنا ووطننا.
إننا نستطيع تأمين الكهرباء من سوريا ، وقد تم ذلك في السابق. حيث يمكننا تزويد سوريا بالوقود الذي تحاول بعض الجهات مشكورة تأمينه الى لبنان بقرار سياسي شجاع، ومن هذا الوقود تنتج سوريا ،عبر معاملها ، الكهرباء لسوريا وللبنان في نفس الوقت وبكلفة أقل بكثير عما ندفعه اليوم وما سندفعه غداً.
وإذا كانت سفيرة أميركا تقترح مد لبنان بالكهرباء والغاز من الأردن ،إقتراحها مقبول ، ولا يتطلب البتة لقرارات سورية مسبقة او موافقات، فهذا الطرح مقدم منذ خمس سنوات وتم البحث به، ولكن المسؤولين عندنا لم يلتزموا به ولم ينفذوه.
هناك إجراء آخر. فبعد التداول مع الحكومة العراقية إستطعنا تامين مليون طن من النفط العراقي، وعمل البعض عندنا المستحيل لعرقلة الصفقة بحجة انها غير نظيفة ، إلا أن الأمور أخذت مجراها الطبيعي وسيصل النفط قريباً خلال اسبوعين.
فإذا كنا بأمس الحاجة الى المليون طن ، وأن الكمية تؤمن الحاجة لمدة شهرين أو ثلاثة، ولكي تكون لدينا الفرصة لتامين حلول جذرية، يمكننا أن نطلب من العراق او غيره مليون طن أخرى .وبذلك نستطيع تامين الكهرباء بمعدل ست ساعات إضافية من المعامل الموجودة ولمدة طويلة.
هذه بعض الحلول المباشرة والسريعة، ولكن يوجد حل جذري،هذا الحل يتم عبر التفاهم الذي حصل مع روسيا مثلاً. فالروس على استعداد لتشغيل مصفاة الزهراني بقوة انتاجية تعادل ١٥٠ ألف برميل يومياً. ولبنان بحاجة الى ١١٠ آلاف برميل في اليوم. لمدة ثمان سنوات. بذلك نؤمن حاجة لبنان ونصدّر الباقي ٤٠ ألف برميل يومياً، ونستفيد من الثمن ونوفر ال ٤٧٠٠ مليون دولار كلفة الوقود السنوية التي نتكبدها لتامين حاجة لبنان من الوقود. إضافة الى تصدير ٤٠ الف برميل نفط و٥٠٠ الف طن غاز يومياً. والذين يقدّر ثمنهم بما يزيد عن المليار دولار عن كلفة ما نستورده. وبهذا نخفض ميزان المدفوعات ٤٧٠٠ مليون دولار. ومن ضمن الإتفاق مع الروس، تزود روسيا لبنان بكل حاجته من الوقود طيلة فترة الصيانة للمصفاة وتجهيزها لسنة او لسنتين، ويضاف المبلغ المتوجب على الكلفة الاجمالية على اساس pot ، وهذا العرض ليس ابن اليوم ،عمره خمس سنوات أيضا. وتم رفض العرض رضوخاً لإملاءات خارحية، أميركية بالتحديد.
لهذا نقول أن لدينا عدة خيارات واسعة وكبيرة ولدينا القدرة على تأمينها.
هذا في الشق الاقتصادي، أما في الشق التربوي ، فأقول : أنه في عام ١٩٨٩ جاءت بعثة من البنك الدولي وأرادت أن تقوم بدراسة لتقديم مشروع إعادة إعمار لبنان. وقتها كان ادمون نعيم حاكماً لمصرف لبنان.فدعى الى اجتماع حضره عدد من الاقتصاديين والصحفيين وكنت بينهم ، تم التدارس بأولويات الإعمار، وتم التوافق على أنّ إعادة النظر بموضوع التربية وتحديثها وتعميمها و إيلائها الأهمية الأولى تعتبر من أولويات الإعمار.وأصدر الحاكم بياناً قدمه للحكومة المزمع تشكيلها في ذلك الوقت ، مشدداً على موضوع التربية لما له من أهمية في الإعمار وعلاقة جدلية مع كل الأطر الأخرى. وعندما تشكلت الحكومة ، ووضعت برنامحها ، وضعت موضوع التربية في آخر البرنامج ، ثم تم تجاوزه والغاؤه، تحت حجة أن التربية لم تصدّر طلاباً للعمل في الخارج للحصول على المال.
ففي بلد تغيب فيه السياسات التربوية الوطنية الحديثة ،ولا يوجد فيه رابطاً بين التعليم وسوق العمل ، وتفرّخ فيه الجامعات لتصبح كدكاكين محلية وطائفية، وفي بلد تعلّم فيه كل طائفة وفق برامجها الطائفية الخاصة والضيقة، وبغياب المنهج الموحّد وكتاب التاريخ الموحّد والسياسة التربوية الموحّدة. في بلد من هذا النوع تصبح فيه التربية مكشوفة أمام الخارح ومن خلالها يصبح البلد كله مكشوفاً. هذا البلد لن يقف على رجليه ولن يتقدم.
أخيراً ، أود أن أضيف، بأن الناتج المحلي للبنان عام ١٩٨٩كان ١٧٥٠ مليون دولار. وكنا نصدّر ب ٣٥٠مليون دولار من الإنتاج الوطني، ونستورد ٧٥ بالمائة من حاجة السوق المحلي. في عام ٢٠١٨ أصبح الناتج المحلي ٥٢ مليار دولار ، نصدّر بملياري دولار ونستورد ب ٢٠ مليار دولار.
هنا المفارقة..وهنا يصبح من الضرورة البحث الجدّي عن حلول وخيارات وطنية على مختلف المستويات ، للخروج من الأزمة والإنقاذ وإعادة بناء الدولة، وإعادة النظر بالسياسات التربوية الوطنية التي تعتبر من أولى المقدمات في إعادة البناء…
4-المداخلة الثانية للدكتورة ابتهاج يوسف صالح.
سفيرة منظمة السلام العالمية، رئيسة قسم العلوم في المركز التربوي للبحوت والإنماء سابقاً، رئيسة او عضوة ومستشارة في عدة جمعيات ولجان مختصة في الشؤون التربوية والتعليمية في لبنان والعالم ، خبيرة في شؤون التدريب على موضوع التعليم في حالات الطوارىء والازمات ضمن النطاق الاقليمي للأونسكو.
دكتوره ابتهاج ، أهلا بك بيننا، تحدثينا عن مسالة التعليم عن بعد ،الواقع والإقتراحات والحلول الممكنة …
التربية في لبنان ” واقع وحلول “
سلام عليكم وعلينا سلام …
بعد التوجه بالشكر إلى القيمين على هذا اللقاء وإلى المشاركين جميعاً أتمنى أن يكون هذا اللقاء نقطة انطلاق لعمل تعاوني، تواصلي لما فيه مصلحة الوطن والمواطن اللبناني.
موضوعنا الحالي حول التربية في لبنان، حيث سنستعرض الوقائع والحلول.
المشهد العام يبين لنا تشرذم الوطن، كيف لنا ان نعيد البناء؟ لنستمع الى هذه القصة:
كان الأب يحاول قراءة الجريدة وابنه الصغير يضايقه, فقام بقطع جزء من الجريدة يحتوي على خريطة العالم , ومزقه الى أجزاء صغيرة ثم طلب الى ابنه إعادة تجميع الخريطة, ظنا” منه أن الأمر سيستغرق وقتا” طويلا”, قد يلهيه عنه.
لكن بعد عشر دقائق عاد الطفل ابن التسع سنوات ومعه الخريطة، فسأله الأب:هل كانت أمك تعلمك الجغرافية؟ أجاب الطفل: لا، ولكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من قطع الجريدة، فعندما أعدت بناء الإنسان أعدت بناء العالم.
إذن الخطوة الأولى هي إعادة تكوين شخصية المواطن اللبناني كي يشعر أن لبنان هو وطنه وليس موطنه عند اذن يعيد عملية البناء .
وعملية التكوين تبدأ بكلمة ذهبية من اللغة العربية ألا وهي ” التربية “, التربية بأبعادها المختلفة: الإنسانية والاجتماعية والثقافية والمهاراتية ….
والتكوين يعني البناء والترميم وعملية الترميم أيها الحضور الكرام أصعب وأدق من عملية البناء وتتطلب تضافر الجهود والعمل بإتقان من خلال عملية دمج القيم الداعية إلى العيش بسلام ( التعاون والمحبة والاحترام والرفق والصدق والعدالة….) بطريقة متقنة في المنظومة التعليمية.
فالقيم هي الأساس الذي يحفظ انضباط الفرد في التعامل بينه وبين مجتمعه إذ يحتاج التلامذة في المدرسة الى الكفايات الأكاديمية والتعليمية لتحقيق أهدافهم ، والى المشاركة بأفضل ما لديهم، والى السعي ليكونوا أشخاصا”ذوي شخصية سليمة وصحية. ومن جهة ثانية، هم يحتاجون أيضا إلى مهارات التعلم الاجتماعي العاطفي: الوعي الذاتي, الإدارة الذاتية, صنع القرار المسؤول, العلاقة الصحيحة, الوعي الاجتماعي …
يتطلب تحقيق ذلك بناء بنية أساسية للمدرسة تستطيع دعم التعلم الاجتماعي العاطفي من خلال مشاركة المعنيين كافة بالعملية التربوية وبأسلوب موحد:
العائلة والمعلم والمدرسة والمجتمع المدني ولا ننسى دور وزارة التربية من خلال المناهج التعليمية .
- العائلة : من خلال توعية الأهالي وتدريبهم في اجتماعات مدرسية دورية أو طارئة او في مراكز الشؤون الاجتماعية .
- المعلم : من خلال اعداده وتدريبه في المراكز المختصة (جامعات ودور معلمين )على المهارات الفنية، اذ أن التعليم أصبح فناً له مهاراته واستراتيجياته الخاصة والتي لا بد أن تتوافر في المعلم الجيد المربي الذي يسعى الى نقل المعرفة والتراث، ويساعد على نجاح عملية التنشئة الاجتماعية وإعداد الجيل الجديد الذي نريد.
- المدرسة: متابعة المعلم في المدرسة وتوجيهه ( الإرشاد والتوجيه ) وتعامل الإداريين و الأساتذة والتلامذة معا”.
- المجتمع المدني : من خلال عقد لقاءات توجيهية في مراكز الجمعيات الكشفية وغيرها .
- وزارة التربية : من خلال إدماج القيم في الأنشطة التربوية ضمن المناهج التعليمية , طبعا” بعد إعادة النظر في المناهج المدرسية التي ما زالت قائمة وفق القرار 10227 تاريخ 8 أيار 1997.
لنعد الى الواقع التربوي التعليمي في هذه الظروف العصيبة :
ما تم تطبيقه العام الفائت هو التعلم عن بعد , ولهذا الأسلوب سلبيات وايجابيات .
- السلبيات:
- انعدام وجود البيئة الدراسية التفاعلية والجاذبة والتي ترفع من استجابة التلامذة في هذا النوع من التعليم.
- اقتصار المادة التعليمية على الجزء النظري من المنهج . .
- إجهاد المتعلّم بسبب ما يقضيه من وقت على الهواتف الذكية وغيرها لمتابعة مواده الدراسية المختلفة.
- اقتصار دور المعلّم على الجانب التعليمي في أغلب الأحيان، واختصار دوره التربوي في تنشئة التلامذة.
- عجز المتعلم عن تقييم أدائه وتحصيله بشكل مستمر وهو الدور الذي كان يُسند إلى المعلم في البيئة التعليمية التقليدية.
والأصعب من ذلك كله :
- عدم توافر الأساتذة المختصين في هذا الأسلوب التعليمي
- .عدم توافر الطاقة الكهربائية في المنازل.
- الإيجابيات:
- يؤدي التعليم عن بُعد دوراً فعالاً في رفع المستويات الثقافية، والعلمية، والاجتماعية بين الأفراد.
- يسد النقص الكبير في الهيئات التعليمية والأيدي المدربة المؤهلة في مختلف المجالات في حال وجودها
- يخفف من الضعف الذي تعانيه بعض المدارس في امكانياتها .
- يُقلل من الفروق الفردية بين المُتعلمين.
نستخلص ان التعلم عن بعد غير مناسب بشكل عام في وضعه الحالي .
ما الحل اذا”؟؟؟
هل الحضور الالزامي في المدرسة مناسب ؟
حتما” لا بسبب عدم توافر المواصلات والوضع الصحي العام (كوفيد 19).
وهنا أقترح بعض الحلول منها :
- التعليم في المنزل : Homeschooling
في ظلّ الظروف الحاليَّة السائدة في جميع بُلدان العالم -تقريباً- بسبب فيروس كورونا، والذي فَرَض علينا الإقامة الجبريَّة في منازلنا، وأعاق مُمَارسة جميع الأعمال الاعتيادية، من الذهاب إلى العمل، أو التسوُّق، أو السفر، وحتَّى ذهاب التلامذة والمُعلمين إلى المدرسة؛ كان لا بدَّ من البحث عن طرائق تعليمٍ أخرى أكثر أماناً ، فكان التعليمُ المنزلي الذي اصبح معترفا” به قانونا” في 50 دولة حول العالم أحد أفضلها وأسلمها. لكن، ماالتعليمُ المنزلي؟ ومتى بدأ؟ وما أساليبهُ؟ وهل لهُ سلبيَّات؟ وما إيجابيَّاته ؟ كلُّ هذا يتطلب تخطيطا” تربويا” يستجيب للتغيرات الحادثة في البيئة.
وبالنسبة الى وضعنا في لبنان قد يكون هذا التعليم ميسراً في القرى أو الأحياء في المدن
- إعادة النظر في المناهج المدرسية بشكل دقيق ومناسب للواقع المعيشي شرط أن تعرض على مختلف المؤسسات التربوية لدراستها قبل إعلانها رسمياً.
- إعادة فتح دور المعلمين والمعلمات الابتدائية والعليا لإعداد الأساتذة.
- إقامة محاضرات وندوات وورش عمل تدريبية بصورة دورية لكل العاملين في مجال التربية والتعليم.
بهذا نكون قد عملنا على بناء أجيال:
– تعرف حقوقها فتطالب بها وتدافع عنها.
– تدرك قيم الديمقراطية والمواطنة ومبادئهما!
– تتحلى بمعارف ومهارات متعددة الأبعاد!
أتمنى أن يكون ما تم عرضه بشكل عام يساعد على إعادة التخطيط للعملية التربوية والتعليمية.
شكراً لحسن إصغائكم ومع فائق الإحترام والسلام.
5-المداخلة الثالثة للدكتورة سلام شمس الدين، الإختصاصية في علم النفس الاجتماعي، الناشطة اجتماعياً وتربوياً، لها عدة مشاركات مؤتمرية، وعدة دراسات وأبحاث ضمن اختصاصها. عضو الهيئة الادارية في هيئة تكريم العطاء المميّز،
دكتورة سلام، نرحب بك مجدداً ، حيث تحدثينا عن الإنعكاسات النفسية على مكونات العملية التربوية: المعلمين والطلاب والأهل وخاصة بعد اتباع طريقة التعليم عن بعد والتعليم المدمج …
” آثار التعليم عن بعد على المنظومة التعليمية والصحّة النفسيّة “
د. سلام شمس الدين
أدى انتشار جائحة كورونا وفرض الحجر الصحي القسري في جميع دول العالم، إلى تحوّل في آليات العمل البيداغوجي داخل المدارس والمعاهد والجامعات، بعد اغلاق أبوابها، واعتماد آلية التعليم عن بعد، واستخدام البرامج التعليمية عبر المنصات والتطبيقات التعليمية الافتراضية، التي تمكّن من الوصول إلى المتعلمين، وتحدّ من انقطاع التعليم فيها. وكان لبنان من بين تلك الدول الذي سارع بدوره وبقرارات صادرة عن وزارة التربية والتعليم العالي، إلى اعتماد هذا النمط من التعليم للتكيف مع الظروف المستجدة.
لم يكن اعتماد آلية التعليم عن بعد في لبنان خياراً سهلاً، حيث أن عملية التحوّل من تعليم قائم إلى تعليم افتراضي،عرّت بدورها عيوب المنظومة التعليمية، ووضع نظامنا التعليمي أمام تحديات جمّة، بين مواصلة التعليم وضمان جودته، وتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع الطلاب من جهة، وبين جهوزية المنظومة التعليمية والأمكانيات المتاحة لتحقيقها من جهة أخرى، مما ألزم الإدارات المعنية بإعادة تشكيل هيكليتها وتحديث برامجها التربوية وتكييفها، في كل المراحل التعليمية، وتعزيز قدرات المعلمين والمتعلمين بممارسة ” التعليم عن بعد”، والإستخدام الأمثل لتكنولوجيا التدريس والتعلّم الحديثة، من أجل استمرار التعليم وتحقيق الأهداف المعرفية والتنموية المرغوبة.
هذه التجربة بطبيعة الحال قوبلت بالرفض في البداية ، لماذا؟ لأننا نخشى التغيير، ولأننا تعودنا أن نُدار لا أن ندير، وشكلت صدمة لدى العديد من الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور بسبب ابتعادهم عن العلاقات الحقيقية الطبيعية، وأشعلت فتيل القلق والتوتر في نفوسهم، وتسببت بالعديد من الضغوطات النفسية والاجتماعية لعدم جهوزيتهم، ما دفعهم إلى إعادة تشكيل الهوية الشخصية والهوية المهنية، أي إعادة بناء العلاقة مع الذات، والبحث المستمر في تطوير معارفهم وأدواتهم ومناهجهم وطرائقهم التربوية والتعليمية، بغية تحقيق التوازن، وضمان استمرارية التعليم.
ولعلّ أهم التحدّيات التي واجهت عملية التعليم عن بعد، والتي كانت لها آثارٌ سلبية على المنظومة التعليمية من جهة وعلى الصحّة النفسية من جهة أخرى، جاءت على الشكل الآتي:
أولاً: آثارعلى المنظومة التعليمية
- أبرز التحول إلى آلية التعليم عن بعد، مواطن الضعف في نُظم التعليم والتدريب في جميع المؤسسات التعليمية.
- تعرّضت المنظومة التعليمية إلى إرباك في كيفية المواءمة بين الفصول الدراسية والجداول الزمنية الأكاديمية وما ارتبط بها من عمليات تقليص المحتوى وتقليص الحصص التعليمية وأوقاتها الزمنية.
- أحدثت عرقلة في تقديم الخدمات الأساسية والمناسبة للطلاب، وفي أعمال الإداريين والموظفين، بسبب انخفاض مستويات الرقمنة وأوجه القصور الهيكلي.
- أحدثت رفضاً ومقاومة من قبل الطلاب والمعلمين والأهل لعدم جهوزيتهم، وقدرتهم على سرعة الإستجابة والتكيّف مع منهجيات العمل الجديدة، لافتقارهم إلى أبسط مهارات تكنولوجيا المعلومات والإتصالات من جهة، ولعدم توّفر البنى التحتية من كهرباء وانترنت، والموارد التقنية من معدات وأجهزة الكترونية من لابتوب وهواتف ذكية وغيرها من جهة أخرى.
- أبرزت صعوبة في تنفيذ وتطبيق أساليب التعليم عن بعد، كما صعوبة تنفيذ التعلّم القائم على العمل في المختبرات والأنشطة الجماعية التفاعلية.
- أدت إلى ظهور عدد من المخاوف لدى المعلمين والموظفين، مخاوف من فقدان مرتّباتهم واستحقاقاتهم أو جزءً منها أو تأخيرها، مخاوف من تسريحهم من الوظيفة والإستغناء عن خدماتهم.
- أدت إلى ظهورمخاوف على مستوى المؤسسات التربوية غير الحكومية، من انهيارها، سيما بعد تمنّع الأهل عن دفع الرسوم المستحقة وانخفاض نسبة تمويلها.
- أحدثت تسرّب اختياري لبعض المعلمين من وظائفهم التعليمية، بسبب اجتزاء مداخيلهم من جهة أو بسبب عدم قدرتهم على التكيّف ومواكبة عملية التعليم عن بعد من جهة أخرى، أو بسبب حاجة المعلم إلى مصادر بديلة للدخل.
- أدت إلى تغيّب وتسرّب عدد من الطلاب من التعليم، بسبب التأثير الاقتصادي الذي ترافق مع جائحة كورونا، وبسبب الضغوطات النفسية المتنوعة التي خلفتها.
- أحدثت فوارق تعليمية بين المؤسسات التعليمية في طرائق التعليم عن بعد، والطرق التقييمية المعتمدة، والذي يؤدي بدوره إلى ظهور تفاوت في مستوى التحصيل الدراسي لدى الطلاب وانعدام تكافؤ فرص التعلم في ما بينهم، مما سيؤدي بالطبع إلى اتساع الهوّة على المدى الطويل.
- كما أوجدت هذه الآلية صعوبة توفير الحوافز التعويضية والبيئة المحفزة والثرية، التي تساهم في تنمية المهارات، كما أدت إلى غياب القدوة والتأثر بالمعلم بسبب غياب الجانب الانساني في العملية التعليمية لغيابه في الآلة.
- أظهرت بعض المشكلات التي تتعلق بمدى مصداقية تقييم أداء التلاميذ عن بعد ورصد تقدمهم، حيث أن كثيراً من الأسئلة التي كانت توجه للطلاب، يتم الإجابة عليها بالاستعانة بالأهل والمحيطين بهم، كما أن كثيراً من الواجبات المنزلية لم تكن تقدّم بالشكل المطلوب والتي قد تنعدم فيها استقلالية الطالب.
- أدت إلى تأثر بعض الطلاب الأكثر ضعفاً، الذين يواجهون محدودية التعلّم من المنزل لحاجتهم إلى معين ومشرف دائم بجانبهم، مما لا يكفل استمراريتهم.
- تهديدات لوجستية وبلبلة وارباك واجهتها المؤسسات التربوية ووزارة التربية على مستوى تنفيذ الإمتحانات الفصلية الأخيرة والإمتحانات الرسمية، من تحصين وتمويل ومواصلات وغيرها..
- وأخيراً، ستوجِد هذه الآلية مشاكل مستقبلية ، تتعلق بتحوّل عدد من الطلاب إلى المؤسسات التعليمية الحكومية والذي يفرض بطبيعة الحال انعدام القدرة الإستيعابية لهذا الكم الهائل من الطلاب الإضافيين.
للحيلولة دون تحوّل أزمات التعليم عن بعد إلى كارثة تلقي بظلالها على جيل كامل، يجب التعامل مع معضلة المرحلة المقبلة في هذا المجال بإتخاذ اجراءات مساعدة تحمي الكادر التعليمي والطلاب وتحقق أهداف التربية والتعليم المتوخاة، والذي يستوجب إعادة التفكير في نظام التعليم بعد جائحة كورونا، بناءً على الموارد التعليمية التي نملكها لتعليم طلابنا وتكوينهم المستقبلي الذي نتصوره، ودراسة كل السيناريوهات المستقبلية والمتوقّعة، بطرق علمية ونظرة استشرافية، تتعايش مع كل الظروف الراهنة والعصيبة التي تحدق بنا، وتضمن تحقيق جودة التعليم والأهداف التربوية المرجوة، مع الأخذ بعين الإعتبار حقوق الكوادر التعليمية ، أولئك الذين يمثلون القلب النابض في المدارس، والقادرين على إعداد الكفاءات البشرية التي تُعتبر أحد أهم المرتكزات التي تقوم عليها حضارة أي أمة من جهة، والتوجه إلى الأهل باعتبارهم جزءاً مكملاً للمنظومة التعليمية، بالعمل على دعمهم ومساندتهم معنوياً ونفسياً، والتخفيف من معاناتهم ومن الأعباء المالية الملقاة على كاهلهم من جهة أخرى، الأمر الذي يكفل العودة إلى المدارس وضمان استمرارية التعليم.
ثانياً: آثار على الصحّة النفسيّة
في ظل كل التحدّيات السابقة الذكر، كان جلّ اهتمام وزارة التربية والمؤسسات التعليمية، يرتكزبشكل أساسي على كيفية نقل المعارف للتلاميذ وانقاذ العام الدراسي، ولم تولِ تلك الجهات موضوع الصحّة النفسية الذي يعد أساساً في نجاح العملية التعليمية واستمرارها أي اهتمام.
لقد عاش كل من الطلاب والمعلمين وأولياء الأمور صدمات نفسية متتالية بسبب جائحة كورونا والتحول إلى عملية التعليم عن بعد، بسبب الأوضاع الاقتصادية والأوضاع المعيشية والأمنية والصحية المتردية، وهذا بطبيعة الحال يدفع بظهور حالات مرضية نفسية طارئة متفاوتة في الشدّة والحدّة، وهوما يعرف في علم النفس” باضطرابات ما بعد الصدمة”، التي تؤثر بدورها على الإستقرار النفسي وتوازنه، والقدرة على التكيّف في البيئة الاجتماعية والبيئة المدرسية وبيئة العمل.
ولعلّ أهم الآثارالنفسية التي عانى منها كل من المعلمين والمتعلمين والأهل، في ظل التحوّل إلى آلية التعليم عن بعد، كانت على الشكل الآتي:
- آثار نفسية على المعلم
- أوجدت هذه الآلية خللاً في التوازن بين الهوية الشخصية والهوية المهنية.
- أحدثت إرهاقاً وتعباً نفسياً وجسدياً، نتيجة ضغوطات العمل عن بعد، وضرورة التوفيق بين متطلبات وظائفهم وظروفهم المعيشية من جهة، وبين متابعة شؤون أبنائهم التعليمية والإشراف عليها من جهة أخرى.
- عبء إضافي ملقى على عاتق المعلم، في تقبّل الحالات النفسية والمزاجية المتقلبة للتلاميذ، إضافة إلى التواصل مع الأهل لتقديم المساعدة وطلب التعاون لشحن أبنائهم بالطاقة الإيجابية وصقل قدراتهم التعليمية.
- مخاوف صحية من العودة إلى التعليم الحضوري.
- مخاوف من فقدان مرتباتهم أوجزء منها، أو تسريحهم من العمل في العام المقبل.
- آثار نفسية على المتعلمين
- الملل بسبب تنوع الأدوات المستخدمة في التعليم، والجلوس لساعات طويلة أمام الشاشة.
- فقدان الحافز التعليمي وانخفاض روح المنافسة.
- إنخفاض الطاقة الإيجابية والقدرة التواصلية الفعّالة والميل إلى العزلة.
- إنخفاض قدرة المتعلمين على الإنتباه والتركيز وتعرضهم للنسيان.
- تراجع في القدرات التعبيرية والمهارات الكتابية لدى البعض منهم، والحدّ من إبداعاتهم وإكتشاف مواهبهم وقدراتهم.
- إحباط أصيب به البعض بسبب إدراكهم للفجوة الحاصلة بين النتائج المرجوّة وبين ما هم قادرون على تحقيقه فعلياً، الأمر الذي دفع بالبعض منهم إلى الإنسحاب من التجربة قبل إتمامها، ناهيك عن الإحباطات المتنوعة التي أصيب بها البعض نتيجة انخفاض مستوى تحصيلهم الدراسي مقارنة بمستوى تحصيلهم الدراسي في العام الفائت.
- مشاكل سلوكية متنوعة كالعدوانية والتنمّر مثلاً، واضطرابات نفسية متعددة كالعزلة والإكتئاب والإدمان الالكتروني وغيرها من الإضطرابات، نتيجة الوقت غير المنظّم على الأنترنت، وبسبب تعرضهم لمحتوى ضار، نتيجة الإستخدام السيء له، وبسبب إهمال الجانب القيمي وضعف الرقابة الأسرية.
في ظل كل تلك التأثيرات النفسية التي عانى منها الطلاب، لا بد أن تؤثر بشكل سلبي على نموهم النفسي والاجتماعي وصحتهم العقلية وتطورهم المعرفي، حيث أنه لا يمكن لهم أن يتلقوا المعلومة ويبدعوا في ظل مشاكل وقلق وتوتر نفسي.
- آثار نفسية على الأهل
- كسر روتين العائلة بسبب وجود الأولاد في المنزل لمدة طويلة.
- أدوار جديدة أنيطت بالأهل، تتعلق بتطوير مهاراتهم التكنولوجية وصقل معلوماتهم الأكاديمية، بالإضافة إلى متابعة أبنائهم خلال تدريسهم عن بعد.
- نضوب طاقة الأهل ونفاذ صبرهم، بسبب التعرّض الطويل للحجر وبسبب الضغوطات المتنوعة الملقاة على عاتقهم.
- مخاوف وقلق على صحة الأبناء ومستقبلهم الدراسي.
- انعدام الأمن الأسري ووجود علاقات متوترة بين أفراد الأسرة، كذلك انعدام الأمن الاقتصادي والأمن المجتمعي والأمن الصحي .
ومع ظهور كل تلك الآثار النفسية السابقة الذكر، فإنها غالباً ما تؤدي إلى ظهور أعراض جسمانية، تعرف علمياً بمصطلح “الأعراض السيكوسوماتية”، أي أعراض جسدية ناتجة عن الإجهاد النفسي، كآلام في المفاصل والعضلات والرقبة والظهر، سمنة وأمراض سكري، صداع مستمر، مشاكل في القلب، اضطرابات في الأعصاب، نوبات صرع، جفاف في الجلد، رجفة في اليدين، مشاكل في النظر وكسل وخمول جسدي…
ومع بداية العام الجديد، وإعادة فتح المدارس لا بد من ذكر بعض المقترحات التي تساهم في علاج كل تلك الآثار النفسية والتخفيف من وطأتها والحدّ من تفاقمها، بما يكفل صحة المعلمين والطلاب النفسية والجسدية في آن معاً، ويضمن استقرارهم النفسي وتكيّفهم الآمن في البيئة المدرسية.
أهم تلك المقترحات:
- ضرورة إعداد دليل نفسي وصحي (وقائي وعلاجي)، يتضمن مجموعة من التعليمات والنصائح التي تجيب على الأسئلة الأكثر شيوعا لدى الطلاب، قبل عودتهم إلى النظام التدريسي وبشكل سريع، بهدف حماية صحتهم النفسية وتعزيز سلوكياتهم التعليمية المتوخاة.
- تدريب المعلمين والمرشدين التربويين على طرق اكتشاف الحالات النفسية والاجتماعية المصحوبة بقلق بين الطلاب، وإحالتها إلى المختصين بعد استشارة الأسرة والتحقق من الحاجة إليها.
- توفير الدعم النفسي والاجتماعي لمختلف الفئات العمرية، تتعلق بتزويدهم بطرائق واستراتيجيات التعامل مع الضغوط النفسية وكيفية إدارتها وحلها.
- تفعيل دورالمرشدين التربويين والأختصاصيين الاجتماعيين والنفسانيين في المدارس، لما لهم من دور رئيسي ومحوري سيماً في هذه المرحلة الإستثنائية.
- خلق أجواء مناسبة للطلاب تضمن العلاقات التفاعلية الفعالة وتعزز التواصل في ما بينهم، وتدعم الأنا لديهم وتبرز شخصيتهم، وتصقل مواهبهم وتنمي قدراتهم الإبداعية، وتفعل ثقافة الحوار والمناقشة، وتعلمهم طرق حلّ المشكلات، وغير ذلك من المهارات التي تساعد على نمائهم المعرفي والاجتماعي وتحقق لهم توازنهم النفسي والإنفعالي.
- التحلي بالمرونة النفسية والعقلية من قبل المعلم، وتقبّل الواقع كما هو، وفق آليات نفسية تساعد على تطوير أدائه ومعارفه وتوسّع زوايا النظر لديه،”عين على الذات وعين على الواقع”، لما لذلك من أهمية في تحقيق الأهداف التعليمية المرجوة.
- إيلاء الأسرة أهمية بالغة لما لها من دور أساسي في تهيئة أبنائها نفسياً واجتماعياً، لدى عودتهم إلى المدارس، وتزويدهم بمقترحات علمية وقيمية وتنظيمية يستطيعون من خلالها إعادة إحياء قيم التقدير للمدرسة، للمعلم وللتحصيل العلمي في نفوس أبنائهم، ومدى أهميتها في حياتهم المستقبلية.
ولأن العام الدراسي المقبل لا يشبه سواه من الأعوام السابقة، فإننا نرى أنّ انتظامه يطرح مهمة عاجلة على عاتق وزارة التربية والتعليم، تستوجب المواءمة الدقيقة بين الإحتياجات التعليمية والاجتماعية والصحية والعاطفية، التي تضمن سلامة الطلاب والكادر التعليمي والإداري مع استمرار الجائحة، وبين الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعاني منها الوطن.
وفي المقابل، ليست الدولة هي اللاعب المنفرد في مواجهة كل تلك التحديات، بل لا بد من التعاون والتكاتف بين كل الجهات المعنية، وتقديم بعض التضحيات الضرورية والإجرائية الإستثنائية من قبل جميع الفرقاء، لتجاوز هذه المحنة والخروج بأقل الخسائر الممكنة ، والعمل على إنقاذ العام الدراسي المقبل، وإنقاذ مستقبل أجيالنا.