قام وفد من هيئة تكريم العطاء المميز بزيارة المفكر والاديب والمخرج الاستاذ حسن خليل ضاهر، في منزله الكائن في بلدة كفررمان، لتقديم وسام الهيئة تكريماً لعطاءاته فيالقطاع التربوي والقطاع الفني والنشاطات الاجتماعية … وقد تحدث رئيس الهيئة الدكتور كاظم نورالدين قائلاً: إن هيئة تكريم العطاء المميز تبحث عن المميزين بعطاءاتهم في كل الميادين لتضمهم الى هيئتها، للاستفادة من عطاءاتهم . والأستاذ حسن هو في لائحة الذين نفخر ونعتز بالعمل معهم في الحقلين الاجتماعي و الثقافي . وكانت الهيئة الادارية قد كلفت الاستاذ الدكتور حسين ظاهر ان يقول كلمة هيئة التكريم في حضرة المحتفى به .
كلمة د. حسين ظاهر :
إنّ دراسة تاريخ الهجرة اللّبنانيّة، تقودنا إلى الرّجوع أربعة آلاف سنة في غابر التّاريخ، وهو الزّمن الذي باشر فيه الفينيقيون “اللبنانيون الأوائل” مغامراتهم عبر البحار، والذين “وفق بعض المؤرخين” وصلوا إلى القارة الأميركيّة في أواسط القرن الثاني عشر قبل المسيح. ولقد استندت الدراسـات في هذا الإطـار وبصـورة خاصة إلـى الكتابــات الفينيقيـّة في حجارة غافيا وبارايبا في البرازيل. وإذ تابـع المؤرخـون تحرّياتهـم فإنّهم يتأكّدون من حضور العرب في أميركا اللاتينيـة في القرن السابع بعد الميلاد، عندما وصل الحاكم بن براجيل من مراكش وقرطبة إلى جزيرة “الآسور” ثم حقّق بعد ذلك مأثرة اجتياز المحيط الأطلسي العام 705 بعد الميلاد، ووصل إلى مصب نهر “بارنايبا” في ولاية “بياوي” (الحالية)، وتنقّل على الشواطئ، ووصل إلى منطقة تسمى اليوم “إنفرا دوس ريس”.
ولقـد قام هـذا الحاكـم بوضــع الخرائـط للشّاطــئ، ووضــع خاتمــة تحت عنـوان «براجيل»، وأعطى راسمي الخرائط كلّ الشروحـات اللازمــة. وفـي متابعتهـــم البحـث تحقّــق المؤرخون من الوجـود العربــيّ واللبنانــيّ في أميركـا اللاتينيــة، خـلال التّوســّع الإسبانــيّ والبرتغاليّ، في القرنين الثّاني عشر والرّابع عشر بعد الميلاد.
وقد بدأت الهجرة اللبنانيّة والعربيّة الكبرى إلى العالم الجديد في القرن التاسع عشر، وذلك لأسباب عديدة، منها ما له علاقة بالوضع الداخلي في الشرق، ومنها ما له علاقة بالوضع في الغرب. ففي الشّرق لم تكن السّلطنة العثمانيّة تؤمّن الحرية أو الأمن. أما لبنان الحالي فقد كان في ذلك الوقت منقسمًا إلى منطقتين: جبل لبنان الذي تمتّع بإدارة ذاتيّة تحت الحماية الأوروبيّة، في حين كان القسم الأكبر من السّهول الواقعة في سهل البقاع، وكذلك الشّواطئ تحت السّيطرة التّركيّة. ولقد كثرت الاضطهادات، وبسبب فقدان الحرية والأمان والنّقص في المدى الجغرافي بسبب ضيق الأراضي وسيطرة الإقطاع كان الوضع الاقتصادي مترديًّا، الأمر الذي دفع الكثير من اللبنانيين إلى الهجرة، فيّمموا شطر البحر سعيًّا وراء أراضٍ جديدة ما شكّل بداية الهجرة الجماعيّة العام 1856 إلى الولايات المتحدة التي كانت تمارس سياسة هجرة، تستهدف جذب المهاجرين لملء الفراغ في أراضيها.
وقد أدت الحرب الأهليّة في لبنان العام 1860 إلى زيادة التعّصّب، وأدّت إلى دمار لبنان، وسقوط ألوف الضّحايا في مجازر رهيبة، ما زاد من عدد المهاجرين نحو مصر التي كانت توفّر مجالًا جيدًا للعمل الزراعيّ، ولا سيما في منطقة الاسكندرية. ثم أخذ هؤلاء يتّجهون من لبنان ومصر نحو أوروبا وأستراليا وآسيا الغربيّة وأفريقيا وجزر الباسيفيك وأميركا الشمالية. وقد كان هذا المقصد الأخير حلم اللبنانيين الكبير الذين كانوا يقولون دومًا أنهم يريدون الذهاب إلى “الأميركا”.
وجدير بالملاحظة أنّ لبنان قد مرّ بعد حكم المتصرّف رستم باشا بمرحلة تميّزت بظلم الإقطاعيين للفلاحين، خصوصًا في سهل البقاع، فاضطر اللبنانيون إلى الهجرة بصورة جماعيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر سعيًا وراء ظروف حياة أفضل في بلدان جديدة.
ولقد تميّزت الهجرة إلى البرازيل كونها استقطبت المزارعين وأفراد النّخبة السّياسيّة والثقافية. إذ كان من أهدافها ضمان الحياة الحرّة في المهجر، ثم العودة للعيش حياة أفضل في الوطن.
وقد أشار منير نجّار إلى هجرة اللبنانيين وعودتها من جديد مع نهاية الحرب العالميّة الأولى التي شهدت حصارًا خانقًا من السلطنة العثمانية لجبل لبنان ومجاعة كبيرة تسببت بها موجة الجراد، وبعد إيقاف حركة السفر بسبب الحصار، وإثر تدهور الأوضاع السياسية والأمنية مجددًا بحلول سنة 1975 تاريخ بداية الحرب الأهليّة، شهد لبنان مجدّدًا موجة هجرة أخرى استمرّت حتى نهاية الحرب والفترة التي تلتها أيضًا، نظرًا لبقاء تأثير تداعيات الحرب الاقتصادية والسياسية على الحياة الاقتصادية والمعيشية في لبنان، ومع استئناف اللبنانيّين هجرتهم إلى مختلف دول العالم بدأوا بتحويل الأموال إلى عائلاتهم في وطنهم الأم.
وإذا أردنا أن نعرّف “المهاجر اللبناني” وفق المراحل التّاريخية التي مرّت بها هذه الهجرة، فيمكننا الاستناد إلى أبرز التّعابير المتداولة:
- السّفير فؤاد التّرك الذي يرى أنّ المغترب هو اللبناني الذي ولد في لبنان وهاجر منه، ويشكّل المغتربون في نظره نسبة غير كبيرة من المنتشرين. ويرى في مدلول المنتشرين أكثر شمولية وعمومية، إذ يشمل هؤلاء المغتربين والمتحدرين معًا. وتشمل عبارة المنتشرين في الخارج المغتربين والأجيال الصاعدة بعدهم. وقد اقترح إطلاق تسمية وزارة الخارجية والانتشار اللبناني على وزارة الخارجية والمغتربين(1983).
– أمّا رضا وحيد فيعتقد أن موجات الهجرة الأولى ولّدت ما يسمى بالمتحدرين الذين غادروا لبنان، يحدوهم الأمل بالعودة إليه يومًا ما. وأّن الهجرة التي حصلت بعد الحرب العالمية الثانية شهدت تحولًا نوعيًّا في التّصنيف والهوية، فأصبحت انتشارًا. - وقد ميّز الرئيس الياس الهراوي الذي اُستحدثت في عهده “وزارة المغتربين” بدقة بين مدلولي المغتربين والمنتشرين. فالمغترب في نظره شيء، واللبنانيون المنتشرون في أصقاع الدنيا شيء آخر، حيث أن للفئة الأولى علاقة وثيقة بلبنان أكثر من الذين اغتربوا وسمّوا مغتربين من أيام العهد العثماني.
- وهكذا يتدرّج تاريخيًّا مفهوم المهاجر اللبنانيّ عند رضا وحيد من متحدّر إلى منتشر، ليصل إلى المغترب. في حين يتدرّج هذا المفهوم عند فؤاد التّرك من مغترب إلى متحدّر، ليشمل تعبير المنتشر عند جميع هؤلاء ويمكن القول: “إن الكلمة المثلى للمغترب وأبنائه وأحفاده هي المنتشرون اللبنانيون”.
وعليه فإنّ الهجرة قد طاولت الجسد الاجتماعيّ اللبناني منذ مطلع القرن التاسع عشر، لدوافع اقتصاديّة وسياسيّة في بادئ الأمر، ثم عادت وارتأت دولة لبنان حسبانها “اغترابًا” لتمييزها عن حركات الهجرة العادية، بهدف إعادة بناء الصّلة مع “أبناء المهجر” بصورة منتظمة، بعد أن تحوّلت حركة الهجرة إلى جزء عضويّ من “الاقتصاد الوطنيّ” منذ الخمسينيات من القرن المنصرم. وهو ما حمل الدولة اللبنانيّة على تسمية وزارة خارجيتها بوزارة الخارجية والمغتربين.
وهكذا فقد أصبح للمغترب اللبناني حكاية في كل بيت. فذاك المغامر الأوّل لم تمنعه المسافات، منذ فجر التّاريخ، عن تحقيق أحلامه بالذّهاب بعيدًا، مهجوسًا بالحرية باحثًا عن الأمان أو عن لقمة العيش، أو تطويرًا لمسيرة نجاحه المهني، أو خوضًا لمغامرات جديدة. وقد برع اللبنانيّون في الخارج ضمن مختلف المجالات السياسيّة والأكاديميّة والاقتصاديّة…
ويتّفق المؤرّخون على أنّ حياة اللبنانيين في الخارج لم تكن دومًا عبارة عن غنى وجاه وثراء. بل هي على العكس من ذلك، شقّت طريقها في صعاب كثيرة، بدأت مع الابتعاد عن العائلة والوطن، مرورًا بالموت في حوادث سفر متنقّلة، وصولًا إلى الدول الجديدة التي استهدفوا وضع أقدامهم على ترابها، وبدء حياة مغايرة داخلها. لكن حتى هناك، واجه اللبنانيّون الصّعاب بأشكال مختلفة. فاضطرّوا للعمل بما أتيح لهم من فرص، كما تنقّلوا سيرًا على الأقدام من مدينة إلى أخرى، نظرًا لعدم توفّر وسائل النقل المختلفة في حينه. وكانوا عرضة بشكل شبه دائم لعمليّات النّهب والسّلب التي اتّخذت طابعًا ممنهجًا ضدّهم أحيانًا. وإن سلموا من البشر، فلم يسلموا من الحيوانات المفترسة، أو حتى الأمراض التي فتكت بعدد كبير منهم. ولم يستقبلهم السكّان المحلّيون دومًا بالورود، فقد نظر هؤلاء إلى اللبنانيّين بعين الريبة والحذر والكره أحيانًا لاعتقادهم بأنّ هؤلاء آتون لسلب ممتلكاتهم أو أعمالهم.
حين يعدّد اللبنانيّون مآثر المغتربين وتفوّقهم العلمي في الخارج، ينسون أحيانًا حجم التضحيات التي بذلها هؤلاء من مرض وجوع وعري ووحدة وخسارة لأهل وأصدقاء ورفاق درب. لكن بعد هذه المعاناة، بدأ نجم الاغتراب اللبناني بالسطوع فبرز الكتّاب والأدباء والأطبّاء والصناعيّون والسياسيّون والاقتصاديّون. ولعلّ درب المغتربين لم يكن مختلفًا كثيرًا عن درب اللبنانيّين أنفسهم داخل وطنهم، أكان من حيث المشقّات أو من حيث قطف ثمار النجاح الذي لم يُقدّم إليهم على طبق من الفضّة.
من خلال ما سبق يتبين لنا أنّ هناك عوامل عديدة شجّعت اللبنانيّين على الهجرة إلى الخارج، منها الهرب من الجوع أو الاضطهاد أو الرّغبة في عيش حياة كريمة حرّة مع “نفحة من البحبوحة والجاه”، ومنها العوامل المنبثقة من موقع لبنان الطّبيعي والجغرافي، وانفتاحه على حضارات العالم المختلفة، ولا يمكن إغفال المطامع الخارجيّة التي أدّت إلى انقسام الدول حول بسط نفوذها في لبنان، وإقامة علاقات مع طوائف مختلفة داخله… لكن يبقى جليًّا للأذهان أنّ طموح اللبناني وإصراره على تحقيق طموحاته الخارجيّة وحبّه لخوض المغامرات، هي ما دفعت بالمغترب اللبناني إلى نحت اسمه في مختلف دول العالم